في المقال السابق تناولنا بعض أسرار اسم الأقصى، وما نهدف إليه في هذا المقال أن نلقي الأضواء على مساحة المسجد الأقصى، والذي دفعنا إلى هذا ما يتردد تصحيحاً لأوهام النّاس، بأن الأقصى هو البناء الجنوبي، وليس قبة الصّخرة. وهذا الأسلوب في تصحيح الخطأ يوقع الناس في بلبلة واضطراب، إضافة إلى أنّه يجافي الحقيقة، لأن المسجد الأقصى هو تلك المساحة التي تقارب ال (144) دونما، وهي المساحة المحاطة بحلقة من الأبنية، والتي تشكّل مع السّور حدود المسجد الأقصى. وتشمل هذه المساحة، كما هو معروف، بناء قبة الصّخرة، والبناء الجنوبي، المسمّى بالأقصى. وأية مساحة تضاف مستقبلاً تأخذ حكم المسجد الأقصى.
ومعلوم في التاريخ الإسلامي أنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو أول من أنشأ بناءً في القسم الجنوبي من الأقصى. أمّا لماذا في أقصى الجنوب، فهذا واضح، لأنّ القبلة هي في الاتجاه الجنوبي من فلسطين، ومعلوم أنّ الإمام يقف في مقدمة المسجد ثم تكون الصفوف من خلفه متكاملة نحو الشمال. وعليه لا لا بد من أن يكون محراب الإمام في أقصى الجنوب، وغير هذا يعني إلغاء جزء من مسجِديّة المسجد. من هنا وجدنا العامّة تسمي البناء الجنوبي بالأقصى، مع علم الجميع بأنّ اسم الأقصى يطلق على الكل، ولا إشكال في إطلاق الاسم على الجزء. وعليه تكون قبة الصّخرة جزءاً لا يتجزأ من الأقصى، وهذا معلوم بداهة. ولكن قد يتوهم من لم يعش في فلسطين أنّ الأقصى ينحصر في قبة الصّخرة، وقد يتوهم آخرون بأن الأقصى ينحصر في البناء الجنوبي.
ولكن هل هناك خصوصية لصخرة بيت المقدس تجعلها متميّزة دينياً على باقي أرجاء المسجد الأقصى ؟
لقد نُسجت حول الصّخرة الأساطير الكثيرة، روجها بعض العلماء قبل أنّ يروجها العامّة. وقد ساعد عدم وجود أحاديث صحيحة حول خصوصية الصّخرة في ذهاب الخيال مذاهب كثيرة، بل لقد اتُخذت الصّخرة في عصور الجهل قبلة في الصلاة، وطاف بها عوام المسلمين كما يطوفون بالكعبة، وتقرّبوا إليها بأنواع القربات، مما جعل العلماء المحققين يجهرون بأنّه لم يصح شيء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة الكرام، يدل على خصوصية الصّخرة، وبالتالي يحرم شرعاً أن تُخَصّ بطواف أو ذبح، ويحرم تعمّد اتخاذها قبلة.
بعد كل ما ذكر يبقى السؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة مقنعة وهو: إذا لم يكن للصخرة خصوصية بالنسبة إلى باقي المسجد، فلماذا أقام عبد الملك بن مروان هذا البناء البديع، المسمّى قبة الصّخرة؟! ومعلوم أنّ عبد الملك بن مروان هو من التابعين الذين عاصروا الصحابة الكرام، وكان من فقهاء المدينة، ومن هنا نجد أنه قد بادر إلى بناء قبة الصّخرة قبل أن يبدأ ببناء الأقصى الجنوبي. وهذا يدل على معرفته بمقام هذه الصّخرة، ووجود البناء يُغني عن كثير من الكلام، كيف لا والكل يجمع على شخوصها لأكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. فهي الشاهد الماثل في الحس، الذي يُغني عن قيل وقال، كما أغنت الأبنيّة المحددة لساحات المسجد الأقصى عن حاجتنا إلى الأسانيد التي تحدد لنا الأطوال والمساحات، وهذا في علم التاريخ أبلغ من كل الروايات.
لقد دفعت بدع العوام بعض العلماء إلى المبالغة في الرّد، إلى درجة الذهول عن معنى بناء قبة الصّخرة في عصر التابعين المعاصرين للصحابة الكرام، بل إنّ بعض كبار العلماء يذهب به رفضه لبدع العوام إلى أن يقبل الرواية التي زعمت أنّ عبد الملك بن مروان بنى قبة الصّخرة ليصرف الناس عن الكعبة المشرّفة. والغريب أنّهم يقبلون مثل هذه المزاعم من غير أن يطلبوا الدليل على صدق الرواية، وهم يعلمون أنّ أعداء بني أميّة قد أكثروا في ذمّهم، والكذب في حقهم، وللكذب علامات لا تخفى على الباحث.
قال ابن كثير في تفسير الآية 142 من سورة البقرة: " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها..". "وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس… قاله ابن عباس والجمهور". وعليه فإننا نستطيع أن نقدّر بأنّ الصّخرة هي ثاني بيت وضع للناس، ثم اتسعت المساحات من حولها، كما هو في الكعبة أول بيت عَبد فيه الناس رب العالمين. ولنا زيادة على هذا التقدير أدلة قرآنية على أنّ كهف الصّخرة هو كهف أصحاب الكهف، ولعلنا نبسط هذا الأمر في مقام آخر إن شاء الله.