جاء في الآية 21 من سورة المائدة على لسان موسى، عليه السلام:" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ...". الراجح أنّ المقصود بالأرض المقدسة، في هذه الآية الكريمة، أرض فلسطين. ولسنا هنا في مقام تحديد حدودها الجغرافية في المنظار الديني. وواضح، في الآية الكريمة، أنّ موسى، عليه السلام، قد طلب من قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، التي فَرض الله عليهم دخولها في حينه. وقد ارتبط هذا الفرض بوعد أن يتم دخولهم بسهولة ويسر: " ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ...". ولسنا أيضاً في مقام رفع الالتباس الذي وقع عند البعض في فهم هذه الآية، فظنّوا أنّ المعنى: " الأرض المقدسة التي كتبها الله لكم .." أو " كُتِبت لكم "، في صيغة المبني للمجهول. وإنّما نريد هنا أن نلقي الضوء على بعض دلالات عبارة: الأرض المقدّسة.
القُدُسُ أو القُدْس: هو الطُهر. والأرض المقدسة: هي الأرض المطهّرة. وهناك فرق بين قولنا: الأرض الطاهرة، وقولنا: الأرض المطهّرة؛ فالطاهرة هي التي لا يلابسها دنس. أمّا المطهّرة فقد يلابسها الدّنس، ولكن لا تلبث أن تُطهّر، فكلما تكرر وجود الدنس تكرر التطهير. ويُفهم من هذا أنّ لفلسطين وظيفة مباركة، تتعلق بمسيرة البشرية كلها: " الأرض التي باركنا فيها للعالمين ". فهي الأرض التي لايتجذّر فيها باطل، ولا يدوم فيها شر؛ لأنها الأرض المطهرة من ذلك كله. وقد يُعّبر عن هذا المعنى ما ورد من أنّها لا يُعمّر فيها ظالم.
فيها كانت نهاية سلطان الرومان الشرقيين، وكان ذلك في معركة اليرموك. أما نهاية البطش المغولي فكانت في عين جالوت. ولا تسأل عن نهاية نابليون، ولا تنس أنّ نهاية المسيح الدجّال ستكون في الأرض المقدّسة ، وكذلك نهاية يأجوج ومأجوج. أمّا اليوم، فإنّ وجود إسرائيل يكاد يُنسينا حقيقة وجوهر هذه الأرض، بل قد يظن البعض أنّ عجلة التاريخ ستتوقف عند هذه اللحظة، أو أنّ سنة الله في المجتمعات ستتخلف، وأنّ كينونة فلسطين المتميّزة في كونها مُطهّرة ستزول، وما أدركوا أنّ وجود إسرائيل على الصّورة التي وجدت فيها، وبلوغ الإفساد الصهيوني أبعاداً عالمية، بحيث يصدر هذا الفساد عن هيمنة وسيطرة كونية الامتداد، لهو الدليل على أنّ الأمور تسير في طريق التقاء أقدار المفسدين بقَدْر فلسطين، الأرض المقدسة.
جاء في الحديث الشريف: " إنّ الأرض لا تُقدّس أحداً، ولكن يُقدِسُ الرجلَ عملُهُ ". فوجود الإنسان في الأرض المقدسة لا يطهره من ذنوبه وأدرانه، بل لا بد من العمل الصالح حتى تتطهر النفس من أمراضها وأدرانها: "...ولكن يُطهر الرجلَ عملُه ". فعمر الشرّ في الأرض المقدسة قصير إذا ما قورن بما سواها من أراضٍ وبلاد. وقد يفسر هذا اضطراب المنطقة المستمر عبر العصور؛ فقدسيتها تأبى عليها أن تتقبل على ظهرها الإفساد. ولا ننسى أننا ننظر هنا بمنظار غيبي، بغض النظر عما يؤيده في عالم الشهادة. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى النظرة المستندة إلى بُعدين؛ بُعد واقعي يرفده بُعد غيبي، حتى لا يؤدي ثقل الواقع المحسوس إلى الإحباط والتحلل. والدارس للتاريخ يجد أنّ صلاح الدين، ومن عاصره من المسلمين، كانوا يملكون هذا المنظار الثنائي المتكامل.
فإذا كانت فلسطين متميزة في كينونتها على باقي بقاع الأرض بأنّها مطهّرة، فإن ذلك من أهم العوامل التي تساعد أهل الجدّ والإخلاص في تحقيق العدالة، في الوقت الذي طغى فيه الشّر واستشرى. وأخيراً نذكّر بما قاله الرجلان في الآية 23 من سورة المائدة: " ادخلوا عليهم الباب ...".