عندما تؤمن المدرسة الوجوديّة بالعبثيّة، وعندما ترفع شعاراً يقول:" لا شيء له معنى إلا الموت"، فإنها تكون قد عبّرت بوضوح عن الحقيقة التي يهرب من مواجهتها الماديّون، لأن هذه النتيجة لا بد أن يصل إليها كل من أنكر اليوم الآخر؛ فعظمة الكون، وإبداع الخلق، والهدفيّة المتجليّة في كل صغير وكبير من هذا الوجود، كل ذلك يفقد معناه عندما نعتبر أنّ الدنيا هي نهاية المطاف.
إذا كان وجودي ينتهي بالموت، فلماذا أعيش ؟! هل يوجد في الحياة الدنيا ما يسوّغ الاستمرار فيها ؟! وماذا يعنى التزامنا بالمبادئ والقيم، وماذا يبقى من سلطة الالزام إذا ما أقصينا الدين ؟! وما مدى منطقية القول: هذا يجوز، وهذا لا يجوز ؟! نعم فبإمكانك أن تشكك في كل القيم، ويمكنك أن ترفض كل شيء، ويمكنك أن تفعل ما تشاء، لأن الدنيا هي نهاية المطاف. نعم سيكتشف الناس أن إنكار اليوم الآخر يُفرغ الحياة الدنيا من معناها، وعندها لا بد أن تكون السيادة للفلسفة العبثيّة، وعندها سيكون الانتحار هو الشجاعة التي تستند إلى العقل والمنطق، وسيكون الاستمرار هو الغباء الذي يورث الجبن والتردد.
حتى الآخرة تفقد معناها عندما يكون لها نهاية. ومن هنا كان الخلود من أكبر حقائق اليوم الآخر، بل إنّ الرغبة الملحة لدى الإنسان في البقاء والاستمرار لهي من أوضح حقائق النفس البشريّة، وكأنّه لا يصلح لعالم الخلود إلا من رُكّب فيه الميل إلى الخلود. وقد جاء الدين منسجماً مع حقائق الخلق، فكانت الآخرة من حقائق الوجود، وكان الخلود من حقائق الآخرة. وهنا يتحقق الانسجام الكامل في كل شيء، وبذلك تظهر الفلسفة الماديّة كعارض مرضي، وشذوذ تأباه البشريّة، لأنه يتناقض مع فطرتها. لذا سيبقى الإلحاد استثناءً غير قابل لأن يكون القاعدة.
من يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ قضية اليوم الآخر تكاد تكون هي القضية الأولى، وتحظى بمساحة ضخمة في كتاب الله العزيز، ويكتشف أنّ صلاح الدنيا لا يكون إلا بالايمان بالآخرة، وأنّ صلاحها هو المقدمة الضرورية لصلاح الآخرة، ولا مجال للفصل بين العالمين، بل لقد باءت كل محاولات الفصل، عبر التاريخ البشري، بالإخفاق الذريع. وأبرز علامات هذا الإخفاق الإيمان بالعبثيّة، والشعور بفقدان الهدفيّة، وانهيار القيم الأخلاقية. وليس عجيباً بعد ذلك أن نسمع أنّ أعلى نسبة للانتحار في العالم هي في البلاد الاسكندنافيّة، والتي هي الأولى في مستوى الرفاه المادّي. وليس غريباً أيضاً أن نجد الجموح والتمرد يسودان في المجتمعات الغربية، التي سادت فيها، يوماً ما، فلسفة احتقار الدنيا، وانتشرت فيها الرهبنة وتقديس العزلة، التي عبّر عنها أصدق تعبير بعض كتّاب الغرب في تلك العصور عندما قال :" إنّ القديس فلاناً لم يرتكب إثم غسل الوجه ثلاثين عاما، وإنّ القديس فلاناً لم يرتكب إثم غسل الرجلين خمسين عاما، أمّا نحن، فواأسفاه، ندخل الحمّام كل يوم !".
تكرر (اليوم الآخر) في القرآن الكريم 26 مرّة. وتكررت كلمة الآخرة بمعنى اليوم الآخر 113 مرّة. وتكرر ( يوم الدين) 11 مرّة، وتكرر ( يوم القيامة) 70 مرّة. فكيف بنا إذا أحصينا أيضاً: يوم الحساب، ويوم التغابن، والصاخّة، والحاقة، والجنة، والنّار، …… وغير ذلك، من الألفاظ الدالّة على اليوم الآخر؟! في المقابل نريد من الذين قرأوا التوراة الحالية، والعهد القديم، أن يدلونا على نص واحد يُصرّح بعقيدة اليوم الآخر لدى اليهود. في حين نجد هناك أكثر من نص في الأناجيل المتداولة ينص على عقيدة اليوم الآخر. وهذا يعني أنّ قضية اليوم الآخر عند اليهود هي قضيّة اجتهاديّة. وبإمكانك بعد ذلك أن تفهم الكثير من مواقفهم وسلوكيّاتهم … !!