الغيب: هو كل ما غاب عن الحس، أو غاب عن العقل. وفي الوقت الذي يصبح فيه الشيء الغائب محسوساً، أو مُدرَكاً بالعقل، فإنه لا يعود بعدها غيباً. وما يغيب عن الإنسان قد يكون من أمور الماضي، وقد يكون من أمور الحاضر، وقد يكون من أمور المستقبل. وقد فطر الله تعالى الإنسان على حب معرفة الغيب، فهو يسعى دائماً إلى كشف أستار الغيوب. ومن الممكن أن نُرجع تطور المعارف والعلوم إلى شوق الإنسان الدائم إلى معرفة ما غاب عن حِسّهِ أو عقله. وقد يدفعه هذا الشوق الجامح إلى سلوك بعض الطرق العابثة، والتي تُهدر وقته وجهده، وتضره ولا تنفعه. من هنا وجدنا أنّ الدين يُحرّم العرافة والكهانة، والشعوذة، لأنها تَصْرِف الإنسان عن الطرق الصحيحة لمعرفة الغيب.
لا يدّخر الإنسان جهداً في اتخاذ الوسائل المختلفة الموصلة إلى معرفة الغيب، وفي الوقت الذي ينجح فيه في كشف أستار غيبٍ ما، يتحوّل هذا الغيب إلى شهادة، ولا يعود غيباً بالنسبة له، وإن كان لا يزال غيباً بالنسبة إلى غيره من الناس. وسيبقى الإنسان يتوسّل بعالم الشهادة للاطلاع على عالم الغيب، في مسيرة لا تتوقف حتى تنتهي خلافته على الأرض. ولا يقتصر عالم الشهادة على المحسوسات، بل إنّ ما يثبت بالعقل هو أيضاً من عالم الشهادة، وعليه فإنّ وجود الخالق، سبحانه وتعالى، هو من عالم الشهادة، وليس من عالم الغيب. وقد يكون هذا من بعض أسرار شهادة أن لا إله إلا الله.
يمكن للإنسان أن يتعرف على ما يغيب عنه عن طريق الحس، أو عن طريق العقل، أو عن طريق الخبر الصادق. وعندما نصف الخبر بأنّه صادق فإننا نقصد بذلك أنّه قام الدليل العقلي على صدق هذا الخبر. من هنا تتفاوت الأخبار في درجة صِدقيتها، وعلى ضوء هذا التفاوت يتفاوت التصديق قوّةً وضعفاً. فعلى سبيل المثال: هناك الحديث الضعيف، والحسن، والصحيح، والمتواتر. فما جاءنا عن طريق الحديث الحسن لا يكون في قوة ما جاء عن طريق الحديث الصحيح، وما جاء عن طريق الحديث المتواتر فهو القطعي في ثبوته. والتواتر مسألة عقليّة، وليست بمسألة شرعيّة.
كل الناس يؤمنون بالغيب، فما معنى أن يُثني الله تعالى، في كتابه العزيز، على المتقين أنهم: " يؤمنون بالغيب " ؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إذا قام الدليل العقلي على صدق النبي فيما يُبلّغ عن ربّه، فإنّ المؤمن عندها يُصدّق ما جاء به النبي من أخبار تتعلق بعالم الغيب، حتى وإن كان الحس والعقل عاجزين عن إدراك هذا الغيب، لأنّ صدق المُخبر يغني عن ذلك.
يقول تعالى في الآية 26 من سورة الجن: "عالمُ الغيبِ فلا يُظهر على غيبهِ أحداً، إلا من ارتضى من رسول…" إنّ الله تعالى لا يغيب عنه شيء، فعلمه مطلق. وعليه فما دلالة إضافة الغيب إليه سبحانه وتعالى؟ تشير الآية الكريمة إلى غيب أراد الله تعالى أن يُغيّبه عن المخلوقات، وهذا يعني أنّ هناك غيوباً يمكن للخلق أن يُحيطوا بها إذا ما توصّلوا إليها بالحس، أو بالعقل، أو بالخبر الصادق. وإنّ هناك غيوباً لم يأذن سبحانه وتعالى بعلمها لأحد من المخلوقات. وقد يُستثنى من ذلك بعض الرسل والرسالات. فغيبهُ سبحانه وتعالى ليس كل ما غاب عنّا، بل هو ما استأثرَ بعلمه دون خَلقِه. وهذا يعني أنه قد يكون بإمكاننا أن نطلع على بعض الغيوب إذا ما تدبّرنا القرآن الكريم، الذي فيه خبر ما قبلنا، وعلم ما بعدنا.
وأخيراً نسأل: هل حُرِم الناس من الاطلاع على الغيب بختم النبوَات والرسالات ؟ نقول: لا، لم يُحْرموا؛ فالرؤيا الصادقة هي نوع من إطلاع الإنسان على الغيب، وكذلك الإلهام. ولكن هذا لا يتعلق بالغيب الذي شاء الله أن يُغيّبه (غيبه)، بل هو مما أراد أن يُظهره. أما ما أراد أن يُغيّبه، فقد شاء سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي هو الطريق الوحيد للإطلال عليه. وعليه فهناك غيب يمكن الاطلاع عليه بواسطة الحس، أو العقل، أو الخبر الصادق، ومنه الإلهام والرؤى. وهناك غيب لا طريق إليه إلا بتدبّر الرسالة الإلهيّة، المتمثلة بالقرآن والسنّة.