جاء في سورة ص: " ووهبنا لداود سليمان، نعم العبدُ إنه أوّاب، إذ عُرض عليه بالعَشي الصافناتُ الجياد…".
تصف الآية الكريمة الخيل بأنّها صافنات، وبأنها جياد. واللافت أنّ الصفة الثانية هي نقيض للصفة الأولى؛ فمعلوم أنّ الخيل عند راحتها تكون قائمة لا تتحرك، بل تنام وقوفا، وصمتها فيه هدوء ووقار، فأنت تعجب من هذا الحيوان الذي يمضي حياته واقفا، وتعجب كيف ينام واقفا، وتعجب كيف لا يرهقه الوقوف! ويزول العجب عندما نعلم أنّ القانون في خلق الخيل، يختلف عنه في خلق الإنسان، وخلق الكثير من الحيوانات التي تنام مستلقية، فراحة الحصان في وقوفه. والهدوء العميق لهذا الكائن، وصمتُهُ ووقاره، كل ذلك هي المقدّمات الضرورية التي تُفجّر حيويّته ونشاطه.
نعم إنّه الجواد الذي يجودُ بالحركة، ويفيضُ بالنشاط. ويندر أن نجد في الحيوانات حيواناً يماثله في هذه المتناقضات؛ فهو الساكنُ المتحرك، والصامتُ المتفجّر.
آية في سورة ص، جاءت عقب الآيات سالفة الذكر، لا تزال لغزاً على الرُّغم من أقوال المفسرين الكثيرة فيها: " ولقد فتنا سليمانَ وألقينا على كُرسيّه جسداً ثمّ أناب". وليس هذا مقام الإفاضة في تفسيرها، وأكثر ما جاء فيها من تفسير لا يستند إلى دليل معتبر. وقد يكون الأقرب إلى الصواب أن نقول: بأنّ الجسد الذي حلّ في كرسي المُلْك هو سليمان، عليه السلام. وقُلنا (حلّ) لأننا وجدناها أليق بمقام سليمان، عليه السلام. ومن لطائف القرآن الكريم أن يقول سبحانه وتعالى: " وألقينا على كرسيّه"، ولم يقل: " وألقيناه على كرسيّه". هذا إذا كان المقصود سليمان، عليه السلام؛ لأنّ كلمة ألقيناه تفيد الإلقاء مع النبذ على خلاف ألقينا. والذي يبدو لنا راجحاً هو احتمال أن يكون سليمان، عليه السلام، قد أصيب بمرض أقعده عن الحركة، أو تحول إلى جسد ساكنٍ لا حراك فيه، واستمر على هذه الحال مدّة من الزمن، ثم شفاهُ الله وعافاهُ مما حلّ به، عليه السلام. وقد يعزز هذا القول أنّ الآيات التي تلي هذه القصّة جاءت على ذكر أيوب، عليه السّلام، وما حلّ به من بلاء: " واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّهُ أنّي مَسَّنِيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب ". ويعززهُ أيضاً قوله تعالى: " ثمّ أناب "، لأنّ من معانيه أنّهُ رجع إلى حالة الصّحّة والمعافاة. واستخدام ثُمّ التي هي للتراخي يؤكّدُ ذلك؛ لأنّ سرعة الإنابة، التي فيها معنى التّوبة، هي من مستلزمات صفة الأوّاب التي وصف بها سليمان، عليه السلام. وهذا يعني أنّ الإنابة هنا لا علاقة لها بالرجوع إلى الله، بل الرجوع إلى الصّحة والمعافاة بعد وقتٍ فيه طول.
المدّة الزمنية التي يُحتمل أن يكون سليمان، عليه السلام، قضاها فاقداً للقدرة على الحركة، والقدرة على إدارة شؤون الدولة، لا بُدّ أن تكون فرصة للتدبر والتأمّل، وإعادة النظر في أمر المُلْك والسلطان، والنظر فيما يمكن أن يفعله الحاكم الذي يملك الجاه والسلطان والقوة. ويمكننا أن نتصوّر الأماني والأمنيات التي تجول في خاطر من فقد القدرة على الإدارة والحكم، وهو لا يزال على كرسيّه سلطاناً معترفاً به. إنّ هذه اللحظات الجليلة تجعل المرء يدرك أنّ الحَوْل والطَوْل كله لله. ومن يمرّ من الصالحين بمثل بهذه التجربة لا يمكن أن يغترّ بالقوة والسلطان، وعلى وجه الخصوص عندما يكون أواباً منيباً لله تعالى.
من يقرأ الآيات التي تلي هذه الآية يجدها مفعمة بالحركة، والقوة، والتسخير، والعطاء الوفير. ويجد سلطاناً يُعطى من كل شيء، ثم هو لا يحاسب: "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب". والمتدبر للآيات يجد أنّ سليمان، عليه السلام، قد انتقل من النقيض إلى النقيض، تماماً كحالة الصافنات الجياد؛ فسكون تلك الصافنات هو المقدمة الضرورية للحيويّة المتفجرة، والحركة الفعّالة. وقد لاحظنا هذا في حالة سليمان، عليه السلام، بعد شفائه من مرضه؛ فقد أصبح سلطاناً يوظّفُ كل ما سُخّر له من أجل رعيته، ومن أجل الحقيقة التي يؤمن بها، وقد بلغ عهده في الحضارة والمدنيّة الأوج، إلى درجة أن نجد الأمم التي جاءت من بعده تنسب كل شيء خارق وعظيم إلى عصره، عليه السّلام. فإذا كانت حالة الصفون في الخيل هي المقدّمة الضروريّة لحالة الجَود، فإنّ حالة سليمان، عليه السلام، في سكونه على كرسيّهِ كانت المقدّمة لإطلاق طاقاته الفاعلة، الموهوبة له من الله تعالى، لإحداث نقلة عظيمة في حياة البشر، وتكون على يديه، عليه السلام، تكريماً له.