جاء في بعض كتب اللغة أنّ الصّرح: هو القصر، وكل بناء عالٍ مشرف. ولكن لماذا سُمي القصرُ قصرا، ولماذا سمي البناء المشرف صرحاً ؟. يبدو أنّ الصّرح مأخوذ من الصراحة، والتي هي خلوصٌ من الشوائب. والصراحة فيها وضوح. وإذا صرّح الإنسان بالشيء فقد كشفه وأظهره. ونظراً لوضوح القصر والبناء العالي سمي صرحا. من هنا لا ينحصر مُسمّى الصرح في البناء العالي المشرف، ولا ينحصر في البناء الضخم الظاهر في الحس. وقد وردت كلمة الصرح في القرآن الكريم أربع مرّات؛ في سورة النمل عند الحديث عن سليمان، عليه السلام، وملكة سبأ، وفي سورة القصص وغافر.
جاء في سورة القصص على لسان فرعون: " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ". وقد تكرر هذا الطلب في سورة غافر:" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَاب، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً..." هل بلغت السذاجة بفرعون أن يطلب بناءاً عالياً يرقاه لينظر ويتحقق من وجود إله موسى؟! وهل يَتصوّر فرعون أنّ المستمعين لهُ من الملأ بهذه السذاجة أيضاً ؟! ما الذي يمنع أن يكون ما يطلبه فرعون أكثر جدّيّة مما يتبادر إلى الذهن؟ ثم لماذا يبني فرعون هذا الصّرح من طينٍ يُطبخ، وهناك ما هو أفضل من الطين لبناء صرحٍ ضخم يتطاول في السماء؟! فلماذا لا يكون هذا الصرح من الحجارة، وقد عرف الفراعنة بناء الأهرامات الضخمة؟! ثم ألم يصعد فرعون في حياته الجبال العالية ليدرك أنّ أعلى بناء ممكن هو أقل ارتفاعاً من جبل صغير ؟!
من يدرس تاريخ الفراعنة يجد أنّ لهم السبق في تحديد السنة الشمسية بمقدار 365 يوما، وتقسيم السنة إلى 12 شهراً، والشهر30 يوما، واليوم 24 ساعة. بل إنّ بناء الأهرامات له علاقة بأبعاد فلكية، وقد بلغت الدّقة الهندسية لديهم بحيث أنّ الشمس تدخل الغرفةً الملكيّة مرّة في العام، وذلك في اليوم المحدد والساعة المحددة. من هنا ندرك أنّ فرعون كان يريد بناء مرصد يساعده في فهم حقائق البناء السّماوي. ويبدو أنّ استخدام الزجاج في هذه المراصد كان هو الأساس في عمل المرصد، كما هو مفترض. على ضوء ذلك نفهم طلب فرعون: " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحا..". فالأقرب إلى التّصور الجادّ أنّه يريد صناعة الزجاج، لبناء مرصد، فهو لا يحتاج إلى بناء عال ليرتقيه، فلديه الأهرامات التي بُنِيت قبل عصره. ومعلوم تاريخيّاً أنّ الفراعنة قد عرفوا المراصد، وراقبوا السماء، وبلغوا في ذلك مبلغاً.
أمّا آيـة سورة غافر: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَاب، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى..". فالمتصوّر أن يكون هذا في عالم الرصد والمراصد أكثر مما يُتصوّر في عالم الارتقاء إلى أعلى، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم أنّ الأمم القديمة قبل الميلاد كان لها سبق في علم الفلك. وقد كانوا يعتقدون أنّ للأفلاك تأثيراً وتَحكُّماً، حتى في مصائر البشر. وبالتالي فإنّ العلل والأسباب الحقيقيّة عندهم هي في عالم الفلك. وفرعون هنا يريد أن يبلغ عالم الأسباب هذا ليطلّ منه بزعمه على حقائق الكون، ومنها حقيقة أنّ موسى، عليه السلام، هو رسول من الله. وهو بذلك يستخدم علم التنجيم لينفي أن يكون موسى، عليه السلام، مرسلاً من ربه. وقد لمّح فرعون إلى ذلك بقوله: " وإني لأظنّه كاذبا".وعدم جزم فرعون هنا من أجل أن يظهر نفسه بمظهر الإنسان الموضوعي، الذي يبحث عن الدليل والبرهان.
إذا صحّ فهمنا هذا، فإنّ ذلك يدعونا إلى إعادة النظر في فهم كلمة الصّرح التي وردت في سورة النمل؛ فقد كانت ملكة سبأ ممن يعبدون الشمس، كما صرّحت الآيات الكريمة، وهذا يشير إلى احتمال أنّهم كانوا يهتموّن بالفلك أيضا. لقد وجدنا ملكة سبأ تصرّ على دينها، حتى عندما تجلّت أمامها معجزة إحضار العرش، فكان لا بد من مناقشتها في عقيدتها، وتعريفها بحقيقة الشمس والأفلاك التي تعبدها. من هنا يحتمل أن يكون دخولها الصرح هو دخولٌ للمرصد الزجاجي الضخم، من أجل تعريفها بواقع الأفلاك، ومناقشتها في عقيدتها؛ فهي مُهيّأة لمثل هذا العلم: " قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير..". نعم فهو من زجاج مُملس، وهو شفّاف وخالص من الشوائب، فهو إذن صرح، وهو أيضاً قوارير. ويبدو أنّ عظمة هذا المرصد تتجلّى في انعكاس الأجرام السماويّة في قاعدته الزجاجيّة، وظهر ذلك في ردّة فعل ملكة سبأ، عندما كشفت عن ساقيها. ولا ندري كم استغرق من الوقت وجود ملكة سبأ داخل المرصد، ولكن يبدو أنّ هذا التواجد هو الذي جعلها تُعلن إسلامها: " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". ويبدو أنّه قد تمّ تعريفها بحقيقة عالم الأفلاك، الذي كانت تعبد من دون الله. ولا شك أنّ النقلة في المعارف تساعد على النقلة العقائدية. وتسمية المرصد صرحاً مفهوم إذا عرفنا أنّ المرصد: يكشف، ويُجلّي، ويُظهر، ثم إنّ عدساته وملحقاتها مصنوعة من الزجاج الخالص الصريح، ثم هو يُبنى في مكان عالٍ ومشرف.